٤/٠٥/٢٠٠٨

من مجموعتي القصصية " نباتات الأسفلت" قصة " نحاسيات أخرى "

و لمّا اجتهدت في بحثي و تنقيبي .. عرقت عرقاً غزيراً .. و انساب الماء من أسفل رقبتي و من عينيّ .. علّي أعثر بنواقص تلك الصفائح النحاسية .. مرّت تلك السنون من فوقي و من تحتي .. و أن أتأمل تلك الصفائح .. أو أحاول حلّ شفراتها .. فعجزت عن فهمها .. عندها اصطفيت واحدة قد اتّسمت بكثرة نقوشها و بهاء طالعها .. و كانت صفيحة عرشية ( خطّها صاحب العرش النحاسي الأعظم بذات ذراعه ) - قد أعلمتني خبرتي في الرقائق الفراء ذلك - تأملتها فابتهجت لحظة .. عساي أمحو غموضها .. لحظة واحدة .. نعم .. ثم انسكب في أذنيّ صوت جرسي .. كان جرسياً و عميقاً .. فظننت وحياً أتاني لأقرأ .. ثم تذكرت أني لم ابلغ الأربعين حتماً .. بَيْد أن ذلك الصوت ازداد و تمدد داخلي .. و انساب و تردد قوياً .. فاستحلتُ اسطوانة زجاجية فارغة ( لم أكن أرى ذلك تماماً .. لكنني أحسسته ) .. اهتزت الأسطوانة – أو أنا – و ترجرجتُ برفق ثم امتلأتُ عظاماً و خِرَقاً .. فاشتعل الجميع .. و صار الكل أبخرة نتنة .. دخاناً ذا لون و طعم و رائحة .. ثم انحبستُ بين الهلام .. فاستحلتُ خرقة تحترق جميع أطرافها نحو الوسط .. لِتُشكّل بروز عظمة كائن خرافي .. فظمئتُ حتى ظننتُني احترقت .. ثم كنت .. تلى ذلك سكون غشاني زمناً ( علمت ذلك بعد إفاقتي).. عندها أومأت لنفسي أني هالك لا محالة .. فلا ريب أنها لعنة صفائحية مكتومة منذ الأزل أيقظتُها .. و هنا ارتعتُ حين رأيت صفيحتي العرشية استحالت نقوشها حروفاً واضحة .. كلمات مرتبة .. و كأن شفراتها أُهرقت و تجمعّت بعيداً .. و كأن أحدهم أحنقه اجتهادي .. أو أغضبه تحريضي ذاتي على الريب في صحة قراءاتي الأولى .. و بينما أنا بين الاضطراب و الذهول .. قلتُ اقرأ .. فارتعش لساني .. قلت اقرأ .. فارتبت ... قلت اقرأ باسم النحاسي الأعظم أنه " يجيء بعد أزمنة ثلاثة تكون غابرة .. واحد من أحفاد إخوانكم .. يقرأ ما لا يُقرأ .. يكون صعلوكاً مجتهداً يبحث عن مجدكم .. ثم يُجّدف بالنحاسي الأعظم .. فطوبى لمن أطلعه سرائر الأمور .. ثم ألبسه الطيلسان و أسكنه الُلجّة .. الديمومة للنحاسي الأعظم "
النحاسية الأولى : الصف الأول : السطر الأول .
و ما كدتُ أنهي قراءتي حتى ظننت " هرمس" قد تَلَبّسني .. انطلق لساني من مخدعه دونما جدال مني .. فأخذت أتابعه بقلمي سريعاً و كتبتُ ما قلتُ .. أن السطر السابع من الصف الأول من النحاسية الأولى يؤكد أنه : " عندما تكف الحياة عن طهو الموت .. يستعيد النحاسيون ذكرياتهم من تخوم الكتب يشدّون أعجازهم فتستقيم ظهورهم .. عندها يتّزرون بحكمة الحقيقة "..
عندها ارتج لساني فاهتززت .. قال اقرأ فقلت أنه : أنا الملك ابن الملوك .. نقي العروق .. سليل الآلهة .. فلما أعلنتُ ذلك في ذاتي ذكّرني بعورة أمي فثرت و اشتد غيظي .. ثم صمَتُّ .. فجاء الصوت الجرسي من عمق صارخاً أنّ :
" ملوكاً و رؤساءً حمقى أصنعهم فوق رؤوسكم .. فإما يأفلون أو تأفل أتون بكارتكم .. عليكم ببركاتي .. الديمومة لي .."
فقلت عظني أتعظ .. فتهادى الصوت رقيقاً .. و مسّني مساً طيباً أنْ :
" دائماً أيها النحاسيون ما تخلع نساؤكم طهارتهن و عفتهن عندما يخلعن أثوابهن .. هكذا قضيت عليكم داعرين و عاهرات للأبد .. أن تعشق أيها النحاسي الصالح كلباً أو قطة أو خنزيراً .. خير من أن تحب امرأة .. لا خير في نحاسي أخلص لامرأة .. أَحِب صديقك .. باركتك .. فلأدم .."
و نادى المنادي " يا أهالي مدينة النحاس .. قد حان وقت غلق القماقم .. لتكتم أبخرتها دائماً .. فتصير عِلماً محرماً بإذن الملك النحاسي الأعظم .. و ليسكن حفيد إخوانكم لُجّة أبدية .. علّه يعلم ما لا يُعلم ....".
و كما تؤكد أخبار أهل الثقة .. أن كاتب السطور السابقة قد أصيب بهذيان و بَرَص و جنون .. سبقه إليه الكثيرون .. فليته لم يقرأ ما لا يُقرأ ، بل لعلّه علم ما لا يُعلم .. فابتُلي بثلاثة حيوات متتابعة .. لا يفرغ من الثالثة حتى يعود للأولى .. بل و ذهب بعض العالمين ببواطن الأمور و ظواهرها .. إلى أنه ترك رقيقة نحاسية منقوش عليها كلمة واحدة فقط .. كانت بلُغة النحاسيين .. و لم يعلم أحد معناها حتى اللحظة .. و أحسبني سأعلم ذلك .

أكتوبر 1999

ليست هناك تعليقات: