٤/٠٥/٢٠٠٨

من مجموعتي القصصية " نباتات الأسفلت " قصة " عن بعض النحاسيات "

و نادى المنادي .. " يا أهالي مدينة النحاس.. قد حان وقت فتح القماقم.. لِتُخرج أبخرتها المدفونة.. فتصير سُحُباً بإذن الملك النحاسي الأعظم .. يخلق لها أذرعة و رؤوساً تحمل ضفائر الذلة و الخذلان .. فتصبح مَرَدَةً و عفاريت بأمره.. تأتيه بأسرّة النسوان الحبالى .. فيمتطيهن كيفما أراد .. كي لا يذبح غُرابَه المحبوب، و ولّي عهده الأبدي.. " يا أهالي مدينة النحاس......." .. و قام قائم من وسط المدينة الصاخبة يُعلن مبايعته و ولاءه لفترة ولاية ألفية أخرى .. " و كما تؤكد تلك الرقائق النحاسية الحمراء التي خلّفها لنا النحاسيون الأوائل : أنّ المدينة لم تملك أبداً حِزباً معارضاً .. أو جريدة صفراء.. أو قناة تلفزيونية خاصة ، فقد كان الجميع حِزباً نحاسياً واحداً .. و كانوا يحفرون حروفهم فوق رقائق النحاس الأحمر .. بينما لم يكن التلفزيون قد اكتُشف بعد" .. و تحكي كتب التراث المُحنّطة بين جوانب متاحف المدينة الخالدة .. أنّ صياداً فقيراً وجد خاتماً وسْط أحشاء سمكة عذراء كانت قد علقت بصنارته المصنوعة من الغاب المجوّف .. و حينما وقع منه الخاتم فوق راس صخرة بحرية .. خرجت من بطن الخاتم صفيحة نحاسية حمراء .. فخاب أمل الصياد في لقاء العفريت المحبوس منذ أزمنة غابرة .. و لم يكن منه إلا أن ركل قطعة النحاس الحمراء ليلتقطها البحر الجائع ...
" و كان طمعه هذا سبباً رئيسياً في غضب إله النحاس الأول ، و حامي حمى ديارها ، و مُبهج نسائها " ..
النحاسية السابعة : الصف الخامس عشر: السطر الحادي و السبعون بعد الألف الخامسة .
و لم يكد الصياد يرى قطعة النحاس التي امتدت و تمددت .. و امتزجت بمياه المالح و تشّكلت كذراع ضخمة طولها ثلاثة آلاف و أربعمائة من الأفدنة ، حتى أُغشي عليه من هول الصدمة و بهاء نور النحاسي الأول .. الذي غضب غضْبَة عظيمة.. و صرخ صرخة ارتجت لها أكوام المدن و جوانب الأرض و البحر استمرت مليوناً من الأعوام .. و بعدها طارد عفاريت الصباح و المساء المختفية خلف تلال السباخ و بين الحارات العطنة .. يُمسكها من عراقيبها و كعوبها .. فيُلقي بها في هوة القماقم السحيقة .. " و هكذا فعلتُ كي أُخلّص العالم من شرورهم .. و يبقون لكم أسرى لا يُفتدون .. حتى يأتي يوم تستطيل فيه ضفائر الذلة و الخذلان خلف رؤوسهم .. و هكذا كنتُ.."
النحاسية الأولى : الصف السابع و العشرون : السطر التاسع عشر .
و بعد أن فَطَر النحاسي الأول عرشًه اعتلاه .. و تشكّلت هيئة المدينة بذراعه .. فأقسم بروح الخاتم الأكبر .. أن تحّل لعنات عفاريته و مردته فوق أدمغة من يخالف قوانينه المقدسة .. و كما جاء في البنيان النحاسي الثاني أنّ " .. من يأكل سمكة أو ينصب لها شركاً أو يتزوج امرأة سراً أو علناً يُحبس ما لا يقل عن الألف عام و لا يزيد عن ثلاثة ملايين سنة في قاع قمقم تصنعه الأم بيديها ".. و جاء أيضاً عن أحد المؤرخين – و كان مؤرخاً علّامة – أنّ " من يخالف ذلك فقد باء بغضب عظيم يأتيه من بين يديه و من خلفه " .. و عوّضهم النحاسي الأعظم خيراً حين قال " لقد صنعت لكم الفواكه و البط و الأغنام لتملئوا بطونكم .. فكونوا عند حسن ظني بكم .. و ليباركم قرن الخرتيت المعلّق دائماً .. و ليحميه القمقم الأكبر .. باركتكم .."
النحاسية التاسعة : الصف التاسع و الخمسون : السطر الثاني و العشرون بعد المئة الأولى.
و لا يشغلنا من هذه الأحاجي النحاسية إلا ما جاء في النحاسية التاسعة المُعَّدلة للنحاسية الخامسة في الصف السابع و السبعين في السطر التاسع بعد الألف الثانية أنّ " .. من خالف النحاسي الأعظم أو قانوناً من قوانينه عامداً متعمداً .. دُقّت يداه بشرائح من حديد مغلي .. و يُستتاب سبعاً .. فإن لم يتب فقد حلّت اللعنة على الجميع .. و لتحكمكم المردة و العفاريت آنذاك .."
و بما أن النحاسي الأول كان ذا باع طويل و عريض في معرفة أمور السياسة و الدسائس و اغتيال خطباء المنصات . و بما أنه كان يملك ثلاثة عقول ..- أحدها يفكر به في أمور الحكم ، و الثاني في كيفية حماية العرش ، أما الثالث فلم ترد نصوص تذكره بخير ..-
فقد استباح لنفسه تعيين ثلاثة أولياء لعهده .. يمسكون زمام السلطة في غيابه عن المدينة .. فكان يعود من غيبته دائماً ليجد اثنين من الثلاثة قد اختلسا رقبة الثالث .. يعلن حينها وجوب تخزين رؤوسهم في القماقم الأزلية .. و ظل على هذا الطريق سالكاً إياه لِنَيف و تسعين ألفاً و تسعمائة و تسع و تسعين حقبة زمنية .. حتى جاءته هدية ملك ملوك ** " سيين و ايلفنتين" .. غراباً أسود .. ليليّ السواد ..ذا منقار أحمر .. شديد الحمرة .. قد امتلك أصول الحكمة و الدهاء و الإخلاص ، و اجتمعت بين جناحيه لغات العالم السفلي و العلوي و الأوسط .. كما يُحكى أيضاً أن زوجة النحاسي الأول قد خلقت سمكة فضية عظيمة – لم يستطع مؤرخ أو باحث أن يحدد حجمها بالدقة المطلوبة – فاكتفوا بقولهم : أنها فضية عظيمة .. يحكى أن هذه السمكة قد أكلت نصف ذراع النحاسي الأعظم بإيحاء من زوجته .. فباح لها مُرغماً بسرّه المقدس ، و أنشأ من أجلها قانوناً يُجرّم الزواج من امرأة أبداً .. فكانت هي المُنجبة دوماً .. تنجب أطفالاً و رجالاً أو نساءً و عجائز .. حسبما اتفق للنحاسي الأكبر الذي حبس السمكة في قمقمه النحاسي الخاص ........................
و بينما أٌنّقب وسْط تلك المخطوطات و الصفائح النحاسية .. تلك الثروة الهابطة فوق رأسي عن تاريخ أولاد العمومة الأجداد .. لم أجد أبداً تلك النحاسية الحمراء التي تخبرنا عن ذلك الخطأ الذي ارتكبه أهل المدينة .. أو تلك الفعلة الشنعاء التي فعلها أحدهم ليطلق النحاسي الأعظم مردته و عفاريته .. و لم أعثر أيضاً على السبب الذي كان من أجله سيذبح النحاسي الأعظم غرابه المحبوب و وليّ عهده .. أو الذي دعاه للعفو عنه .. فعزمت على بيان ذلك .. علّ أحدكم قد عَثُر بتل النحاسية .. أو سيعثر بها .. ليعطي التاريخ حقاً غير منقوص .. و تلك ما تقتضيه أمانتي المهنية .

** أسوان و جزيرة فيلة ( قديماً).

فبراير 1999

ليست هناك تعليقات: